المهاجر الصغير
أحس الصغير بنقرات خفيفة توقظه من نومه العميق، فهو لم يألف أن يبقى نائماً حتى هذا الوقت،
ربما بسبب السفر، لأن السفر قطعة من العذاب.. أو ربما لأن المكان هادئ.. والغابة علمته أن
الاستيقاظ يكون على زقزقة العصافير الصباحية؛ فما إن تلوح أول طلائع النور الصباحي، حتى تنطلق
أول زقزقة في الغابة، ثم تليها أخرى.. فأخرى.. وأخرى.. وإذا بالغابة تضج دفعة واحدة،
وهي تلهج بترنيمات قدسية، مسبحة خالقها، ومدبر أقواتها وأرزاقها..
.. انطلقت الأسرة الصغيرة، سابحة في السماء قبل شروق الشمس، والصغير ما زال يتثاءب في كسل،
وشعيعات الشمس، المتراقصة خلف الأفق البعيد، تداعب عينيه العسليتين، شيئاً فشيئاً، بدأت
ملامح الأرض تتغير.. لقد اختفت الأشجار السامقة، والجبال الوعرة.. وصارت الأرض غير الأرض،
حيث استوت، وما عادت تكسوها سوى بعض النباتات الشوكية.. سدر وحلفاء.. وشيخ وقيصوم..
وغيرها من النباتات التي كان يسأل أباه عنها. بل استغرب لما علم من أبيه أنها مأوى مفضلا لطيور
هذه المنطقة، فهي تبني تحتها، وبين أغصانها، أعشاشها، لأنها أكثر قوة وصلابة في مواجهة الرياح
والزوابع الرملية.. إلا أنها، رغم ذلك، تبقى مهددة من طرف الزواحف وحوافر الوحوش.. وأيادي البشر.
فتذكر الصغير عشه الوثير المنيع.. وحن إلى العودة إلى غابته الظليلة، حيث الهدوء والأمان،
ورفقاء الطفولة.. انسرح به الحلم.. فغاص في ذكريات أيامه الجميلة، تذكر أول يوم له للطيران،
وتشجيع والدته له بالمحاولة، وهو يتردد في خوف.. تذكر أول قفزة له من أعلى غصن، وهو يغمض عينيه،
وجناحاه الصغيران يعبث بهما الهواء، فطفق يصيح:
- أمي.. أمي.. ساعديني.. أنقذيني.. النجدة..
ولم يعبأ، وهو غارق في الحلم، حتى ارتطم بطنه الصغير بالأرض، وإذا بحرارة ملهبة تلسعه،
فصاح في ذعر:
- .. يا إلهي ما هذا؟! أبي.. أمي..
فانتبه الأب إليه، وهو غارق في الضحك:
- احذر أيها الكسول النؤوم.. أتطير وأنت غاط في نومك؟!
خجل الصغير من نفسه، فهو يريد –دائماً- أن يبرهن لأبيه، على أنه قادر على خوض غمار الحياة وحده.
لكن سرعان ما أنساه المنظر العجيب سخرية أبيه؛ منظر هذه الكثبان الرملية الممتدة:
- يا لعظمة الخالق!! أيوجد كل هذا على وجه الأرض؟!
.. لقد كان يظن، من قبل، أن غابته هي كل العالم ومنتهاه.. ولكنه، الآن، أدرك أن العالم أكبر
وأضخم مما يتصور.. فزاد احتقاره لنفسه ولغروره.. وكيف تتصوره أن يكون، غير ذرة حياة صغيرة،
لا تكاد ترى بين عوالم هذه الأرض الفسيحة؟!.. بهرته هذه الصحراء الممتدة على مد البصر..
لا حياة فيها ولا نبات إلا بعض النخيلات المترامية هنا وهناك.. أو بعض الشوكيات المغمورة تحت كثبان الرمال.
فتأمل من حوله، وسأل أباه:
- أبي..
- نعم..
- تصور، لو كانت كل هذه الحصيات الرملية، كلها قمحاً؟!
- كانت الكارثة!!
- الكارثة! ولم يا أبتاه؟!
خفف الأب من سرعته، حتى حاذاه الصغير في الطيران، ثم قال:
- الله يا بني قادر على فعل كل شيء. ويكفينا أنه سخر لنا سبل العيش، وقدر لنا أرزاقنا..
- ألم يكن ذلك يغنينا عن الترحال؟!
- لو تحقق ما تقول، يا بني، لكانت هذه الخيرات الواسعة، سبباً للتطاحن والتباغض بين المخلوقات..
- ولم يا أبتاه؟!
- مخافة نفادها.. ولهذا ينزل الله الأرزاق بقدر معلوم.. ألم تر أننا –معشر الطيور- نغادر أوكارنا صباحاً،
بحثاً عن الرزق، متوكلين على الخالق، دون أن نعرف مكانه ولا حتى نوعه.. فنعود مساءً وقد امتلأت بطوننا.
- آه.. فهمت!!
- .. أرأيت هذه الصحراء المقفرة يا ولدي؟
- نعم، وأظنها لا تنتهي..
- لكل شيء حدود ونهاية يا ولدي. ولكن أترانا قادرين على العيش فيها؟
- لا دون شك، سنموت من الجوع والعطش.. فما فيها خير..
- هذا جائز.. ولكن إذا اجتهدنا في طلب الرزق، بعد التوكل على الله، فسوف نجد فيها ما يشبعنا ويروينا.
- صحيح يا أبي؟!
- نعم، فالله سبحانه وتعالى يقول: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها،
كل في كتاب مبين. صدق الله العظيم..
- إذن سأجرب حظي، وأبحث لي عن أكل، فأنا جائع..
- حاذر.. حاذر يا بني، لا تتهور.. فالرمال ساخنة!!
-.. آي.. آي.. ما أسخنها!! رجلاي.. بطني.. آي.. آي.. !!
وشرع يصرخ ويصيح، والأب يقهقه من شدة الضحك، في حين أسرعت الأم لنجدته في لهفة.
.. كانت الشمس قد اشتدت حرارتها، والصغير بلغه من التعب ما لا يطيق.. وكلما حاول الاستراحة،
حذره أبوه، قائلاً:
- احذر أين تقع يا بني.. كن حذراً!!
لكن هذه المرة، باغته تعب لا يقاوم، فقرر التوقف قليلاً، لعل أباه يشفق عليه، فأدار عينيه الصغيرتين
في الفضاء الواسع، لعله يبصر شجرة أو نبتة.. أو صخرة حتى، يستطيع أن يقع عليها، أو يستظل تحتها،
فالرمال محرقة، وحرارتها تشوي الوجوه، ومن بعيد تراءى له غصن ناتىء بين الرمال،
فقال في نفسه فرحاً:
- الآن، هذه فرصتي لأستريح..
فغافل أباه، ثم همَ بالنزول.. وقبل أن يصل، باغتته صيحة محذرة من مغبة النزول.. لم يدر
أكانت صيحة أمه أم أبيه.. لكنه بدأ يفحص موقع الهبوط على عجل، وفجأة:
يا للهول!! لم يكن الغصن الذي قرر النزول عليه غصناً حقيقياً، وإنما كانت أفعى ماكرة، انتصبت كالعود،
لتوهم العصافير، وتغريها بالنزول فوقها، فتلتهمها كلمح البصر..
اقشعرَ جلد العصفور الصغير، وانتفش ريشه، وهو يرى الحية فاتحة فاها الأحمر،
وأنيابها تتقاطر سمّاً ناقعاً.. ولسانها الطويل، يتطاير ذات اليمين وذات الشمال كالسوط..
كان يرى بعينه وهو ينحدر مباشرة إلى جوف الأفعى، فأغمض عينيه، حتى لا يراها وهي تلتهمه..
وقبل أن تطبق عليه بفكيها القويين، انقض عليه أبوه في آخر لحظة، وأنجاه من موت محقق،
في حين كانت الأم الشجاعة تبعد الأفعى وتشوش عليها، حتى لا تنقض عليهما وهما ساقطان على الأرض..
وبعد صراع ومناوشات، تمكنوا بعون الله من الإفلات من هذه الأفعى الخطيرة. ولما ابتعدوا عن مكان الخطر،
شرعت الأم في نبش الرمال بمخالبها، حتى تزيل عنها الطبقة الساخنة. وأخيراً، استطاع الصغير
أن يستريح داخل حفرة ظليلة.. وهو يشكر الله على النجاة، ووالديه على المساعدة.