وقف الأستاذ محروس متجهماً أمام تلاميذه ، وجال بعينيه في وجوههم البريئة ،
ثم قال : ـ سامحوني يا أبنائي ، لأني نسيت أن أبدأكم بالسلام ، فالسلام عليكم ورحمة الله .
وردّ التلاميذ بأصواتهم الرفيعة الحادة :
ـ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
أنس : عفواً أستاذ .. لم نتعود على أن نراك عابساً ، إلا لأمر خطير ، فما السبب أستاذ ؟
الأستاذ : نحن الآن في شهر رمضان ، أليس كذلك ؟
التلاميذ : بلى أستاذ .
الأستاذ : عظيم .. خففتم عني بعض الشيء ، بجوابكم الصحيح الفصيح : بلى ،
ومن منكم يذكرنا بالقاعدة ؟
ارتفعت عدة أصابع ، وأشار الأستاذ إلى التلميذ أحمد ، فوقف أحمد وقال :
ـ لأن الاستفهام هنا منفي ، والجواب على الاستفهام المنفي يكون بـ : بلى التي معناها : نعم .
فرح الأستاذ محروس بجواب تلميذه ، وأثنى عليه وعلى سائر التلاميذ ، ثم قال :
ـ قبل أن آتي إليكم ، كنت أقلب صفحات إحدى الجرائد ، فرأيت رسمة كاريكاتير هزّتني هزاً .
محمود : عن ماذا تعبّر أستاذ ؟
الأستاذ : عن أسرة مؤلفة من ذكر سمين ، وأنثى سمينة مثله .
أحمد : يعني الأسرة مؤلفة من رجل وامرأة ..
الأستاذ : الله أعلم ، أما أنا فقد رأيتهما في الرسمة : ذكراً وأنثى .. الذكر في (المول) يدفع
أمامه عربة مليئة بألوان الطعام ، وزوجته السمينة تحمل كمية كبيرة من الطعام ،
وترميها في (الحاوية) لو وُزِّع على الأسر الفقيرة ، لكفى عشر عائلات كبيرة .
مصطفى : ولماذا يرمون الطعام في الحاوية ؟
أنس : لماذا لا يوزعونه على الفقراء ، وما أكثرهم عندنا ؟
أحمد : اسألها يا أنس .. اسأل تلك الأنثى ..
مصطفى : أنا أريد أن أسأل زوجها الذكر .
الأستاذ : في بلد شقيق مجاور ، حكى لي أحد الأصدقاء عن
وليمة عرس فيها مئة خروف محشي .. كم ؟
التلاميذ : مئة خروف محشي .
الأستاذ : وكم ذكراً حضر تلك المائدة ، وأكل منها ؟
مصطفى : حوالي عشرة آلاف .
الأستاذ : حضرها .. حضرها .. كم عدد الحاضرين يا أنس ؟
أنس : ألف ذكر وأنثى .
الأستاذ : حضرها ستون ذكراً وأنثى .
أنس : فقط ؟
الأستاذ : فقط يا أنس .. وكم أكلوا من تلك الخرفان المشوية؟
مصطفى : أكلوا عشرة خرفان .. كل ستة على خروف .
أنس : يا شيخ .. ستة أشخاص يأكلون خروفاً ؟
محمود : الستة لا يأكلون فخذاً .
الأستاذ : المهم .. أنّ كل واحد منهم نهش من الخروف الذي أمامه نهشة أو نهشتين ، ثم قاموا عن المائدة ،
وبقيت الخرفان المحشية بالرز الفاخر ، والمكسرات الفاخرة ، على حالها .
أحمد : وماذا فعلوا بها أستاذ ؟
كامل : ليتنا كنا معهم ، لنأكل منها ما يكفينا إلى آخر يوم من أيام هذا الشهر الفضيل .
عزيز : في رأيي ، صار شهر رمضان المبارك شهر أكل وشرب وملء للكروش .
أنس : المهم .. أن ألف عائلة فقيرة أكلت تلك الخرفان .
قال الأستاذ محروس ، ودموعه تغسل خديه :
ـ يا ليتهم أطعموها الفقراء .. يا ليتهم أطعموها الفقراء .. يا ليتهم أعطوها للجمعيات الخيرية
.. لدار الأيتام ..
أنس : إذن .. ماذا فعلوا بها .. هذه الخرفان تحتاج إلى خمس مئة ثلاجة ..
الأستاذ : اقترح صديقي الذي كان يعمل محاسباً للشركة التي يملكها صاحب العرس ، اقترح عليه أن
يتصل ببعض الجمعيات الخيرية لتأخذها وتوزعها على الأسر الفقيرة ، فاستنكر صاحب العرس
هذا الاقتراح وأمر صديقي الذي يعمل عنده ، أن يتصل بالبلدية ، وتأتي بسياراتها سيارات الزبالة ،
لتأخذ الخرفان وكل ما كان على المائدة ، فصرخ صديقي في وجه معلمه صاحب الشركة وصاحب العرس :
ـ لترميها على المزابل ، وتأكلها القطط والكلاب ، ونحرم الفقراء والأيتام والأرامل منها ؟ هذا لا يجوز ,
هذا حرام ..
فصرخ الذكر صاحب الشركة والعرس في وجهه :
ـ نفذ ما أمرتك به .
وردّ عليه صديقي :
ـ أنا مسلم أخاف الله ، ومن المستحيل أن أنفذ لك هذا الطلب.
وكان التسريح من الشركة نصيب صديقي .
وكانت النيران من نصيب شركة صاحب العرس ، فقد التهمت النيران الشركة بكل ما فيها من مواد ،
وأوراق ، ومستندات،وأموال نقدية.
زغرد بعض الطلاب فرحاً ، وهتف بعضهم الآخر هتافات ضد أولئك الذكور والإناث الذين لا يخافون الله
المنتقم الجبار ، ولا يرحمون الفقراء في هذه الأيام الرمضانية التي جعلها أولئك الأوباش أياماً وليالي
لملء كروشهم بأطايب الطعام حتى التخمة ، حتى يكاد الواحد منهم يموت من كثرة ما أكل ،
فيما آلاف الأسر الفقيرة تتضور وتموت من الجوع .